الاستبداد.. تلك الشجرة الملعونة!

تاريخ النشر :٢٠ يوليو ٢٠١٤

الاستبداد كلمة يمقتها كثير من الناس، ويعملون على طردها من أرضهم ومن حياتهم، إنها شر مستطير، ووباء عظيم إذا حل بأمة من الأمم، أو نزل بشعب من الشعوب عاث في الأرض فساداً، ففرق كلمتها، ومزق وحدتها، وجعل بأسها بينها شديداً.
والاستبداد والظلم قرينان لا ينفصلان، وشقيقان لا يفترقان، وحيث تجد أحدهما تجد الآخر، ويا ويل أمة اتحد فيها الاستبداد والظلم، فكل واحد منهما يعين الآخر على الإثم والعدوان.
وتبدأ بذرة الاستبداد تنمو في الإنسان حين يعجب برأيه، ويرى رأيه هو الأصوب ورأي غيره هو الخطأ، فإذا مُكِّنَ لصاحب الرأي المستبد في الأرض، وتولى السلطة في أي شأن من شئون الناس صار حاكماً مستبدا، أو رئيساً مستبداً، أو مديراً مستبداً لا يتسع صدره لرأي مخالف لرأيه. ومعلوم أن أشد أنواع الاستبداد، هو الاستبداد السياسي الذي يُعْنى بشئون الناس، ويصرّف أمورهم، ويشعر أنه فوق الناس لا واحد منهم، ويمارس السلطة ولسان حاله يقول: «أنا ربكم الأعلى» وحين يبلغ الإنسان في استبداده إلى هذه الدرجة المتطرفة فلا تسل عما سوف يصيب الأمة من ويلات ومحن على يد هذا المستبد الظالم؟.
ومن أسباب وصول الحاكم إلى هذه الدرجة المتطرفة في استبداده شعوره بأن ليس للأمة فضل عليه في وصوله إلى كرسي السلطة، وأنها لا تستطيع أن تقيمه من فوق هذا الكرسي إذا أخل بما عاهد الأمة عليه، وبإيجاز شديد: إن الحكام في بعض بلادنا الإسلامية والعربية يصلون إلى هذه الدرجة من التطرف في ممارساتهم السياسية حين يشعرون أن شعوبهم لا يشكلون رقماً صحيحاً ومؤثراً في صناديق الانتخابات، والإنسان المستبد، هو إنسان لا يصلح للزعامة أو القيادة، لأن مثل هذا الإنسان لا يأمن الناس شره، ولا يرجون خيره، فهو لا يرى في الوجود غير ذاته، ولا يهمه غير مصالحه ومصالح من يدورون في فلكه.
وإذا توشح الاستبداد بالظلم، وصار له قريناً، فلا تسل عما يلحق بالأمة من مصائب وبلاء، وإليكم واقع الأمم والشعوب التي ابتلاها الله تعالى بحكام مستبدين لا يرقبون في شعوبهم إلاًّ ولا ذمة، ولقد وصفهم الله تعالى في قرآنه بقوله تعالى: (لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) سورة التوبة/10.
وأي عدوان أشد وأنكى من هذا العدوان حين لا يرى الحاكم المستبد رأياً غير رأيه، أو حقوقاً غير حقوقه.
ولقد ذكر القرآن الكريم أنموذجاً صارخاً للاستبداد حين تكلم عن فرعون الحاكم الطاغية المستبد، وما جلبه على قومه من وبال، قال تعالى «ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (96) إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود(98)» سورة هود.
وكان من استبداده الذي لم يبلغه غيره قوله: «قال فرعون ما أُريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» سورة غافر/29.
بل لم يكتف بهذا، ولكنه تجاوز الحد في الطغيان والاستبداد حين ادعى الإلوهية والربوبية، فقال عن الأُولى: «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري..» سورة القصص/38.
وقال عن الثانية «فقال أنا ربكم الأعلى» سورة النازعات/24.
لقد جسد فرعون المثل الصارخ للحاكم المستبد، واستهان بكل رأي يخالف رأيه، ورفض كل مشورة لا توافق هواه، وكان من ثمرات هذا الاستبداد أنه منع عنهم الخير الذي جاء به نبي الله موسى (عليه الصلاة السلام)، ووقف في طريق نجاتهم من عذاب يوم عظيم.
وأشد ما واجهه الأنبياء والمرسلون (صلوات الله وسلامه عليهم) هو استبداد الحكام وأصحاب السلطة الذين يرون فيما يعتقدون أنه هو الصواب، وأن ما يعتقده غيرهم هو الخطأ، وهذا ما قاله فرعون عن دعوة الحق التي جاء بها نبي الله موسى(عليه السلام) «وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» سورة غافر/26.
وانظروا كيف يقلب الحاكم المستبد الحقائق، ويرمي المصلحين من الأنبياء والمرسلين بتهمة الإفساد في الأرض، وهذه التهمة أحرى أن توجه إليه هو وأمثاله من الحكام المستبدين.
ولكن قاتل الله الاستبداد، والخوف على المصالح الشخصية، كيف تزيف الحقائق، وتحول المصلحين ودعاة الحق إلى مفسدين، والمفسدين إلى مصلحين يخافون على مصالح الناس، ويرجون لهم الخير الذي يزعمون. إننا لم نجد وقاحة، وجرأة على الحق مثل هذه الجرأة وتلك الوقاحة، وصدق الرسول الأعظم(صلى الله عليه وسلم) حين قال: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأُولى إذا لم تستح فافعل ما شئت) رواه
أبو داودعن ابن مسعود (رضي الله عنه) وهو حديث صحيح.
وفرعون ومن سار على نهجه تجسيد حي لهذا الحديث النبوي الشريف، فهم قوم لا يستحون، ولقد وصلوا في الوقاحة وقلة الأدب إلى منتهاهما لأنهم لا يرون في الوجود أحداً يفضلهم في شيء، فهم أصحاب الرأي السديد، والقول الرشيد، وهم الأحق باعتلاء صهوة الحكم، وأما غيرهم، فهم أدنى منهم منزلة، وأقل منهم حظاً في الملك والسلطان.
إن الاستبداد شر كله، فإذا كان قريناً بالظلم وتجاوز الحد، والاستهانة بحقوق العباد كانا معاً دماراً وخراباً للإنسان والعمران.
والمستبدون فئة وإن قَلَتْ إلا أنهم وبال على الأمة، ومصدر من مصادر الظلم والعدوان على حقوقها، وأول هذه الحقوق، حقها في أن يكون لها رأي ينبغي أن يسمع، وإرادة يجب أن تحترم.
ولأن الظلم هو الوجه الآخر للاستبداد، فقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرماً، وأخذ العهد على نفسه أن ينصر كل مظلوم حتى وإن كان كافراً، قال تعالى في الحديث القدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..) رواه مسلم، وأخرجه برقم (2577).
كما حذر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من الظلم، فقال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم، وأخرجه برقم (2578).
هذا هو مقام الظلم عند الله تعالى، وعند رسوله(صلى الله عليه وسلم)، وهذه هي عاقبته يوم القيامة، ولأن الظلم قرين الاستبداد، فما يصح على الظلم يصح على الاستبداد، فهما شريكان في الإثم والعدوان، لهذا حرص الإسلام أشد الحرص على الشورى، وأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن يشاور أصحابه في كل أمر ليس له علاقة بالوحي من أمور الدنيا، قال تعالى: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًّا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين» سورة آل عمران/159.
وجعل الحق سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين التي يعرفون بها، ولا يعرفون بغيرها أن أمرهم شورى بينهم، قال تعالى: «والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون» سورة الشورى/38.
والأمثلة من حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) كثيرة في مجال الشورى، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يخالف أصحابه في أي أمر شاورهم فيه، وقال قولته المشهورة «ما كان لنبي بعد أن لبس لامَّته للحرب أن يخلعها» وكان ذلك عندما شاور أصحابه للخروج لمقاتلة قريش أو قتالهم داخل المدينة، فأشار عليه الشباب بالخروج، وكانوا الأغلبية، وعندما شعروا بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفضل القتال داخل المدينة أرادوا أن ينزلوا عند رغبته، فأبى ذلك، وقال هذه المقولة، ولو تتبعنا المواقف التي استشار فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أصحابه، فسنجد أنه صلوات ربي وسلامه عليه لم يخالفهم وعمل بما أشاروا عليه، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده ساروا على نهجه، وإستنوا بسنته.
هذا هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو من هو تأييداً بالوحي، وقد أُوتي جوامع الكلم، ورغم ذلك لم يترك الشورى، ولم يزهد فيها، بل حرص أشد الحرص على العمل بها، وحض أصحابه عل ذلك، فأين هذا ممن استبد برأيه، وأشاع على ألسنة وعاظ السلاطين: أن الشورى مُعْلِمَةٌ وليست ملزمة! ولو كان هذا الحاكم صادق النية، ومخلصاً لما عاهد الناس عليه لاستعان بأهل الصلاح من العلماء، ولقالوا له: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يترك العمل بالشورى حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه شاور أصحابه في قضايا تجوز فيها المشاورة ثم خالفهم، بل لقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد عمل بما أشاروا عليه في كل قضية كانت موضوعاً للمشورة ما لم يكن هناك نص من الوحي يحكم في القضية

أضف تعليق