إن ربــــك لبــــــالـــــمـــــرصـــــــاد!

تاريخ النشر :١٣ يوليو ٢٠١٤

خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على جميع مخلوقاته، وبيَّن له الصراط المستقيم، ودلَّهُ على سبل الخير، ووهبه من الملكات ما يعينه على الاستقامة، وسخر له الوجود كله ينفعل لحركته، ويستجيب لسعيه، وحذره سبحانه من أن يزيغ عن طريق الهداية، فإن في ذلك الحسرة والندامة، وعذاب يوم القيامة، وهو عذاب لا قبل له به، ولا طاقة له عليه.
فهل استمر على استقامته؟ وهل حرص على سلوك سبيل الهداية، أم أنه اتبع كل ناعق، وأسلم زمام أمره إلى الشيطان، وسار خلفه أعمى البصر والبصيرة؟
من الناس من فعل هذا ولم يدرك عواقب الأمور، ومنهم من صارع الشيطان والهوى وشهوات النفس الأمَّارة بالسوء، والنفس الفاجرة، فصرع كل هؤلاء، وظل صابراً محتسباً حتى جاءه اليقين، أي الموت تصديقاً لقوله تعالى:{ فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين (98) واعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)} سورة النحل.
والناس صنفان: صنف طغاة مستبدون لا يرعون في مؤمن أو في غير مؤمن إلاًّ ولا ذمة، وصنف مظلومون أذلهم الطغاة، هتكوا أعراضهم، وسفكوا دماءهم، وسلبوا أموالهم، وكما وعد الله تعالى المظلومين بالرضوان، توعد الطغاة الظلمة بالنيران.
ولقد قصَّ القرآن الكريم في آياته وسوره قصص هؤلاء الطغاة، وما أحدثوه في الأرض من فساد، وتحدث القرآن عن المصير الذي آلوا إليه من أجل أن يصبِّر الرسول(صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين معه على ما يواجهونه من طغيان قومهم، واستبداد الكبراء من كفار قريش الذين ناصبوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) العداء، وقعدوا للمؤمنين كل مرصد، وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، فلم يتركوا لهم فرصة للنجاة، والفرار بدينهم إلى أرض آمنة، وقوم أخيار، وكان صلى الله عليه وسلم حين يأتيه أصحابه يسألونه أن يدعو الله تعالى أن يخلصهم مما هم فيه كان صلوات ربي وسلامه عليه يطلب منهم أن يصبروا ويحتسبوا، وأن ما ينزل بهم أقل بكثير مما نزل بمن سبقهم من المؤمنين، ويقص عليهم ما قصه الله تعالى عليه عن مصير المؤمنين السابقين الذين تعرضوا لابتلاءات أشد مما ابتلوا به هم.
وحديثنا اليوم عن الظلم والظالمين، عن سعيد بن عبدالعزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر جندب بن جنادة (رضي الله عنه) عن النبي(صلى الله عليه وسلم) فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال:[ يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا..] جزء من حديث، رواه مسلم، وأخرجه برقم 2577.
وعن جابر (رضي الله عنه)، أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قال: [اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم] رواه مسلم، وأخرجه برقم 2578.
هذان النصان العظيمان يحذران من الظلم لأن عاقبته غير محمودة، ومصير الظلمة إلى العذاب الشديد، ونلاحظ أمراً عجيباً في الحديث القدسي، وهو أن الله تعالى قد حرَّم الظلم على نفسه، وهذا يعني أنه سبحانه قد كلف نفسه، والتكليف لا يكون إلا من العابد للمعبود، ولكن لأن الظلم أمره خطير، وعاقبته وخيمة، وأن الحياة في أصلها قائمة على العدل، فإن الظلم لا مكان له فيها، وحتى يلفت الحق تبارك وتعالى الأبصار والبصائر إلى خطر الظلم، وشناعته، فقد حرَّمه على نفسه، وبهذا فقد أخذ الله تعالى العهد على نفسه ألا يُظْلَم أحدٌ في ملكه وسلطانه، حتى الكافر المظلوم يقبل الله تعالى دعاءه، وينصفه ممن ظلمه بموجب هذا العهد، ومن أوفى بعهده من الله، ومن أصدق من الله حديثا.
ذكر القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود، وكيف واجه المؤمنون العذاب الشديد الذي أنزله بهم الحاكم الطاغية الذي أراد أن يخرجهم عن دينهم، فأبوا ذلك، وصبروا واحتسبوا الأجر على ذلك عند الله تعالى، قال عنهم سبحانه:{ قتل أصحاب الأخدود (4) النار ذات الوقود (5) إذ هم عليها قعود (6) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود (7) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8) الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد (9) إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10)} سورة البروج.
هذا البيان الرائع. والمروع يحكي نهاية الطغاة المستبدين الذين عذبوا أهل الإيمان، وأنزلوا بهم أشد أنواع القهر والظلم، فلم يَفُتْ ذلك في عضدهم، بل صبروا واحتسبوا لأنهم يعلمون أنهم على الحق، فخلد الله تعالى ذكرهم في آيات تتلى آناء الليل وأطراف النهار، وأما الطغاة المستبدون فقد حلت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وذكرت سورة الفجر نهاية الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، فقال سبحانه تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10) الذين طغوا في البلاد (11) فأكثروا فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13)
إن ربك لبالمرصاد (14)}.
نهاية مذلة لهؤلاء الأقوام الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، ولقد جعل الله تعالى نهاية فرعون وسيلة إيضاح وتحذير لكل ظالم متجبر لا يؤمن بيوم الحساب، قال سبحانه: {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين (90) آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون (92)} سورة يونس.
وهكذا كانت نهاية هذا الطاغية الجبَّار، وكان الناس يمرون عليه وهو ملقى على الشاطئ لا حول له ولا قوة، ويسخرون من إدعائه بأنه ربهم الأعلى، وها هو لم يستطع أن يحمي نفسه من الموت، فضلاً عن أن يحمي جيشه من الغرق، فهل هذا إله يستحق أن يعبد من دون الله تعالى؟!.
وأصحاب الفيل الذين جمعوا جموعهم، وجاؤوا ليهدموا بيت الله المعظم ماذا كان مصيرهم؟ لقد بقي البيت المعظم شامخاً خالداً، وأنزل الله تعالى بمن أراد به سوءًا العذاب الشديد، وصدقت مقولة سيد قريش وزعيمها عبد المطلب لأبرهة الطاغية: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه!! نزل في هؤلاء قرآناً يصور ما حل بهم، وكان ذلك في يوم ميلاد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهذه كانت من معجزاته عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل(1) ألم يجعل كيدهم في تضليل(2) وأرسل عليهم طيراً أبابيل (3) ترميهم بحجارة من سجيل(4) فجعلهم كعصف مأكول (5)} سورة الفيل.
وقوم لوط (عليه السلام) لما كفروا وأحدثوا في الأرض الفساد، قضى الله تعالى عليهم، وأبادهم عن بكرة أبيهم، وقال القرآن عنهم: { ولوطاً إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم
لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون(81) وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82) فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كانت عاقبة المجرمين (84)} سورة الأعراف.
ونختم حديثنا عن الطغاة المستبدين بأمة سخرت من نبيها، وهو أول أنبياء أولي العزم من الرسل الذين اصطفاهم الله تعالى من بين أنبيائه ورسله الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم جميعا)، وهذه الأمة، هي أمة نبي الله نوح على رسولنا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، سخرت من نبيها ومن دعوته، رغم أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد لها الخير، ولم يترك وسيلة من وسائل الدعوة إلا سلكها معهم، لكن من دون جدوى، ورغم ذلك أبوا وطغوا، قال الله تعالى عنهم: {وقال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا (21) ومكروا مكراً كبَّارا (22) وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا (23) وقد أضلوا كثيراً ولا تزد الظالمين إلا ضلالا (24) مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً(25) وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديَّارا (26)} سورة نوح.
وهكذا كانت نهاية الطغاة المستبدين من قوم نوح حيث طهر الله تعالى الأرض منهم، وجعلهم عبرة لمن يعتبر، وذلك تحقيقاً لقوله تعالى:{ إن ربك لبالمرصاد}، فإنه سبحانه لم يقصر عقوبته على الأمم السابقة، والطغاة الأُوَلْ، بل حتى من جاء بعدهم، وسلك سبيلهم كان الله تعالى لهم بالمرصاد.
وبعد، فها هم رؤساء وحكام في العصر الحديث، طغوا وتجبروا، وساموا شعوبهم الذل والهوان، فكانت نهايتهم كنهاية من سبقهم من الطغاة والمستبدين، وسوف يبقى عذاب الله تعالى لكل ظالم جبار بالمرصاد!.

أضف تعليق