من هم المُخْلَصُون

تاريخ النشر :٦ يونيو ٢٠١٤

عبدالرحمن علي البنفلاح

لله عباداً أخلصوا لله باختيارهم، فصاروا مُخْلَصين باختيار الله تعالى لهم.
الطريق مفتوح لبلوغ القمة، والخطوة الأولى على هذا الطريق هي حسن الاختيار، والتصميم على التجاوز، تجاوز العقبات، وتذليل الصعوبات، والإيمان بوعد الله تعالى: «إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون» (سورة النحل/128).
وأن الله تعالى لن يترنا من أعمالنا شيئاً، وأن لكل مجتهد نصيبًا من سعيه واجتهاده.
وبيدك أيها المؤمن أن تكون من المُخْلَصين إذا أنت أخلصت في عملك، واتقيت الله تعالى فيما تأخذ وتدع من أمور دينك ودنياك.
فالمُخْلَصون قوم أحبوا الله تعالى فأحبهم، ومشوا في الطريق الذي دلهم عليه لإثبات محبتهم له سبحانه، وذلك حين قال لهم: «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم» سورة آل (عمران/31).
فالقول: إنكم تحبون الله ادّعاء تنقصه البيِّنة، ومن رحمة الله تعالى أنه سبحانه لم يتركهم يتعثرون وهم يبحثون عن البينة التي تؤكد حبهم لله تعالى، بل دلهم عليها سبحانه، وقال لهم: إذا أردتم أن تثبتوا محبتكم لي، فأمامكم طريق واحد لا غير هو: اتباع رسولي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي اخترته لكم واخترتكم له، فطريقه هو الطريق الوحيد الذي يؤكد محبتكم لي، وإخلاصكم لرسولي الذي أرسلته إليكم.
ومعلوم أن الإسلام منذ اللحظة الأولى لإشراقة شمسه وبزوغ فجره للعالمين جعل الاختيار الحر هو السبيل إليه، والوسيلة لبلوغ أعلى الدرجات، وربط الجزاء على حسن الاختيار، كما جعل العقوبة على سوء الاختيار.
وعندما سقط إبليس في الامتحان في مادة التواضع رغم أنه نجح في جميع المواد حتى صار في عداد الملائكة باختياره الطاعة على المعصية حتى سموه «طاووس الملائكة» لاختياله وتكبره، ولكن حين ابتلاه ربه
لم يصبر ولم يحتسب بل قال في صلف وغرور واستكبار: «…أأسجد لمن خلقت طيناً» (سورة الإسراء/61)، ولهذا طرده ربه من رحمته. وأما آدم (عليه السلام) فقد تاب عليه ربه واصطفاه، وجعله خليفة في الأرض، بل وأسجد له الملائكة أجمعين.
لقد ظنّ إبليس أن الأفضلية بالمادة التي خلق منها وهي النار، وفاته أن الأفضلية اصطفاء يصطفي الله تعالى لها من خلقه من يشاء، وأن المهمة التي خلق من أجلها آدم (عليه السلام) والعلم الذي علمه الله تعالى هما اللذان جعلا آدم في هذه المنزلة العظيمة.
وهكذا صور لنا القرآن الكريم ذلك المشهد تصويراً رائعاً حين أمر الله تعالى الملائكة -وكان إبليس معهم- أن يسجدوا لآدم تعظيماً وتكريماً له، فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون من الساجدين، ولهذا استحق الطرد واللعن من رحمة الله تعالى، ولأن إبليس زعيم الأشرار وقائدهم إلى النار أبى عليه ذلك أن يطرد وحده من رحمة الله تعالى، فأراد أن يضل قدر ما يستطيع من عباد الله تعالى، فسأل ربه سبحانه أن يمد في أجله ليكون آخر من يقضى عليه بالموت، ولهذا: «قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38)» (سورة الحجر).
ثم أعلن في صراحة عداوته البينة لأبناء آدم (عليه السلام) بعد أن حاول مع أبيهم آدم (عليه السلام) وفشل حيث تاب عليه ربه ثم اجتباه وكرمه، وهذا مما زاد في بغض إبليس لآدم (عليه السلام) وأقسم على أن يقعد لأبناء آدم صراط الله المستقيم: «قال فبما أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم (16) ولآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17)» (سورة الأعراف).
ولكن الله تعالى غفر لآدم واصطفاه، وفوّت على إبليس ما كان يطمح إليه، وهكذا لما أفلت آدم (عليه السلام) من قبضة إبليس قرر إبليس أن يضل أبناء آدم، وأن يعمل جاهداً على صرفهم عن طاعة الله تعالى.
هذا هو إبليس، وهذه هي عداوته المسبقة لآدم (عليه السلام) ولأبنائه من بعده، ولقد كشف النقاب عن خططه ومؤامراته مع تأكيد أنه ليس له سلطان عليهم، لا سلطان القهر ولا سلطان العقل، وإنما هم يقعون في المعاصي بإرادتهم، صحيح أنه يزيَّن لهم المعاصي، ولكنه لا يستطيع أن يحملهم على الوقوع فيها بسلطانه لأن كيد الشيطان كان وسيظل ضعيفا، وها هو يعلن ذلك صراحة: «وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم» (سورة إبراهيم/22).
هذا هو إبليس، وهذا هو شأنه معكم، يزين لكم المعصية في الدنيا ويتبرأ منكم يوم القيامة، ويعلنها صريحة أنه ليس له سلطان عليكم وأنكم أتيتم إليه بإرادتكم، وبمحض اختياركم، فأنتم وحدكم المسئولون عن صلاحكم وفسادكم، وهدايتكم وضلالكم.
فكونوا من المُخْلَصين باختياركم لتكونوا من المُخْلَصين باختيار الله تعالى لكم.

أضف تعليق