دماء نقية

تاريخ النشر :٢٨ أغسطس ٢٠١٥

إن ما قدمته الحضارة المعاصرة إلى الإنسان من إنجازات في كل جانب من جوانب حياته باليمين استردت أضعافه بالشمال، من تلوث في الطعام والشراب والهواء والدواء، بل هناك من يدخل المستشفى ليعالج من علة واحدة، فيخرج من المستشفى بعلل كثيرة بسبب الجراثيم المنتشرة في المستشفى، ولقد شاع على ألسنة الناس أن مريضهم الذي دخل المستشفى ليعالج من مرض ما أصابته جرثومة، فإذا كان المستشفى الذي مفروض فيه أنه محاط بعناية خاصة غير مأمون على مرضاه، فأين يذهب المرضى للعلاج، وإلى من يلجأون؟!
ومعنى أن تنتشر الجراثيم في المستشفى، وأن من يدخله من المرضى غير آمن على نفسه، فمعنى هذا أن المستشفى مريض في ذاته ولا يُرجى برؤه، ولا بد من علاج المستشفى قبل علاج المرضى الداخلين فيه!.
وحديثنا هنا ليس عن هذا التلوث الذي خرج عن السيطرة، بل عن تلوث آخر مصدره ما حرم الله تعالى من الأطعمة، والأشربة، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، والتي أستفاضت آيات القرآن وسوره في الحديث عنها، والتحذير منها من مثل قوله تعالى:«إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله فمن أُضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم» البقرة/173.
الله سبحانه وتعالى يريد الخير لعباده، ويريد المحافظة على دمائهم التي تجري في عروقهم وشرايينهم طاهرة نقية لتغذي جوارح الإنسان فلا تنفعل إلا بالخير، ولا تسعى إلا في الخير، وأن تكون هذه الدماء الطاهرة النقية حرزاً للإنسان وعصمة له عن الزلل، وهذا بخلاف الذين يقترفون المعاصي كالزنا واللواط، وغيرها من المحرمات، فدماء هؤلاء ملوثة بأمراض الإيدز، والسفلس، والزهري، وغيرها من الأمراض التي تنتج عن المعاصي ومخالفة أوامر الله تعالى ونواهيه، فإذا تلوثت هذه الدماء بجراثيم المعاصي، وانتشرت في الجسم، فصارت استجابة الإنسان للمعاصي أسهل، ووقوعه في الفواحش أيسر، ومن وصايا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) لأمته أنه عليه الصلاة والسلام حضهم على توخي الحذر فيما يطعمون، وفيما يشربون، وفيما يخص علاقاتهم الاجتماعية بالمحرمات من النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الحلال بيٍّن، وإنَّ الحرام بيٍّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، إستبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا وإنَّ حمى الله محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله: ألا وهي القلب» متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (1599).
إذاً، فأكل الحرام، وعدم التثبت مما نأكل أو نشرب أو نقارف من آثام يشيع الحرام في دمائنا، فتصبح هذه الدماء ملوثة، وتصيب الجسد كله بالتلوث، ويفسد الجسد بفسادها، فيكون كل ذلك سبباً في غضب الله تعالى على العبد، وينزل به سخط مولاه سبحانه، ويكون ذلك سبباً في رد الطاعة عليه، قال صلى الله عليه وسلم:
«إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:« يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم»، وقال:« يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم» ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يستجاب لذلك (رواه أبو هريرة- رضي الله عنه) المحدث: الألباني في صحيح الترغيب.
أما حين يتحرى العبد الحلال في مأكله ومشربه، وفي كل ما يأخذ ويدع من أمور حياته، فإن الدماء التي تجري في عروقه وشرايينه سوف تكون طاهرة نقية، وسوف تطهر الجوارح بطهارة هذه الدماء، فلا يصدر عن العبد في كل أحواله إلا الخير.
فإذا أردت أيها العبد أن تظل دماؤك نقية طاهرة، وتنقل الطهر إلى جوارحك، فعليك بالطاعة لمولاك سبحانه وتعالى، والخضوع لشرعه جل جلاله، فأنت مستأمن على ما حباك الله تعالى من نعم: الصحة والعافية وسلامة الجوارح، وهي ودائع عندك قد استودعك الله تعالى إياها، فصنها وحافظ عليها، وردها إلى مولاك كما سلمها إليك إلا ما يعتريها مما ليس لك يد في رده، واعلم أن هذه الجوارح سوف تشهد عليك يوم القيامة حفظتها أم ضيعتها؟ قال تعالى: «وقالو لجلودهم لِمَ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون» فصلت/21.
أيها العبد المؤمن اتق الحرام في كل شأن من شئونك، وتوخ الحذر ولا تستجب لهواتف الشر في نفسك من دون التثبت منها أحلال هي أم حرام؟
واتق الشبهات، فهي إلى الحرام أقرب منها إلى الحلال، ولا تظن أن اختلاط الحلال بالحرام في المشتبهات عذر يسوغ لك الوقوع في الشبهات، فالرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) قد حسم الأمر حين جعل المشتبهات من المحرمات، ويجري عليها ما يجري على الحرام الصريح من حكم واجب الاتباع، وذلك حين قال صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) الحديث.
فلا مجال لإعمال العقل، أو محاولة التأويل في هذا النص الصريح الدلالة، فهو قطعي الثبوت: لأنه حديث رواه الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهو قطعي الدلالة: لأنه ليس بعد تفصيل الرسول(صلى الله عليه وسلم) تفصيل.
إذاً، فالدماء الوحيدة الطاهرة من الحرام، النقية من جراثيم المعاصي، هي دماء المسلم الطائع الذي يتحرى الحلال في حياته كلها، ويتقرب إلى الله تعالى بكل ذلك. فالمؤمن الذي يحرص على الكسب الحلال، وعلى النسل الحلال، وعلى الصدق في الأقوال والأفعال، فهذا الإنسان أمواله طاهرة، وأخلاقه معصومة، وعلاقاته سوية وبعيدة عن الشبهات.

أضف تعليق