الإلحاد.. ضلالة عقل!

اعتنى الإسلام عناية عظيمة بالعقل وتحاكم إليه في أي خلاف يقع بينه وبين أصحاب الرسالات السماوية الأخرى، وبينه وبين الوثنية في جزيرة العرب، والعقل عند هؤلاء وعند الإسلام هو المرجعية التي يجمع عليها جميع الأطراف، ويقبلون بحكمها، ولكن أي عقل يحوز هذه المكانة؟ هل هو مطلق عقل أم العقل الراشد الذي بلغ في النضج درجة كبيرة وتخلص من الأهواء والأغراض؟!
لقد أسس القرآن الكريم للعقل كمرجعية يتفق عليها الجميع وذلك في قوله تعالى: {الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} آل عمران/191.
هذه الآية الجليلة أكدت أن التفكير -وهو وظيفة العقل- فريضة وليست نافلة، حيث قرنه سبحانه بأعظم عبادة بعد الإيمان بالله تعالى وهي الصلاة، وأن التفكير كالصلاة في الفرضية، ويؤكد القرآن الكريم أن من تمام رشد العقل ونضجه أن يستجيب صاحبه لله تعالى فيما أمر ونهى، لأنه سبحانه يعلم من خلق: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} الملك/14، ولأنه سبحانه وتعالى هو الحق لا إله إلا هو، يقول تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} البقرة/186.
كما يؤكد القرآن العظيم في أكثر من موضع أن الإنسان لا يبلغ الرشد إلا حين يتلمس أسبابه وسبله، يقول جل جلاله: {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} الأعراف/146.
ولأن الإسلام يقيم للعقل هذا الاعتبار، ويثق في أحكامه حين يتجرد من الهوى، ويعرض عن مواريث الآباء والأجداد، ويجعل غايته الحقيقة المجردة عندها يستعيد الإنسان إنسانيته التي ميزها الحق سبحانه وتعالى بالعقل خلافًا لباقي المخلوقات، والدليل على ثقة الإسلام بالعقل، وتقديره له هو أنه يطالب خصومه دائمًا بالدليل العقلي على ما يدعون، قال تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كُنتُم صادقين} البقرة/111
القرآن العظيم يتحدى أهل الكتاب فيما يزعمون، ويطالبهم بالبرهان ليؤكدوا به صدق دعواهم، ثم يصحح لهم المصير الذي سوف يؤولون إليه، وذلك في قوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا يحزنون} البقرة/112.
هذا هو الميزان الذي يجب أن يزن به أهل الكتاب أنفسهم كما هو حال غيرهم من الأمم، وهذا الميزان هو إسلام الوجه لله تعالى، وأن يكونوا محسنين في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم، أما إطلاق الأماني من دون رصيد من الاستجابة لأمر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، فهو مجرد شقشقة باللسان، ولغو لا طائل من ورائه.
والآن إلى القضية التي نحن بصدد الحديث عنها ومناقشتها وهي قضية الإلحاد الذي شاع في هذا العصر، وهو العصر الذي كان من المفروض أن يكون أعظم عصر للإيمان بالله الواحد الأحد، وذلك بعد أن تصالح العلم مع الإيمان لأن كليهما يبحث عن الحقيقة، إلا أن الذي حصل هو العكس عند بعض من أسرفوا على أنفسهم، وألقوا بأنفسهم في بحار متلاطمة الأمواج وهم لا يجيدون السباحة، فضلا عن أنهم يسبحون ضد التيار القوي الجارف، يقول العالم الأمريكي الكبير موريس كريسون في كتابه «العلم يدعو إلى الإيمان»: [بلغ العصر الذهبي للفلسفة الطبيعية ذروته فيما بين سنتي (1820م-1850م) وكانت تلك الفلسفة تبرهن على وجود خطة مرسومة في الخلق بإبداء عجائب الطبيعة، وكان الفيلسوف الطبيعي يسترعي الانتباه إلى براعة تكوين العين البشرية بما تحويه من تنظيمات تلسكوبية ومكرسكوبية، وكان يذكر ما في مفاصل الإنسان من ليونة وتنظيم يدعوان إلى العجب. وكان يدهش لخفايا التكاثر، وإحكام الوسائط؛ التي يواصل الإنسان وكل كائن حي بها. وكان من بين العمليات الكيماوية الفريدة التي تقوم بها الكائنات الحية، مثل هضم الطعام، وتمثله بعين فلسفته التقية، فيراها براهين قاطعة على وجود خطة وتدبير في الخلق، ومن ثم على وجود الخالق المدبر] (من مقدمة كتاب/العلم يدعو إلى الإيمان/ ص23/ للعالم موريس كريسون).
وبعض من يلحد يحاول أن يتطاول بإلحاده، ويتظاهر بأنه قد علم من الدين ما لم يعلمه غيره، وأنه رائد في فهمه هذا، وهنا نريد أن نظهر وأن نذكر أسماء من آمن بعد إلحاد، فهؤلاء لهم الحق في إنصافهم، والتنويه بيقظتهم، ومن هؤلاء جيفري لانج الذي كان ملحدًا فأسلم وصار يحدث الناس بما أنعم الله تعالى عليه من نعمة الإسلام، والبروفيسور جيفري لانج هو أستاذ الرياضيات في جامعة كانساس بالولايات المتحدة الأمريكية، والرياضيات من العلوم التي تعتمد كثيرًا على العقل والتفكير المنطقي، وصاحب هذا العقل ليس من السهل إقناعه بغير ما يعتقد، ولكن براهين الإسلام وأدلته القوية قادرة على أن تقنع كبار العلماء، لأن العقل المسلم قد تدرب في مدرسة القرآن وكان أستاذه العظيم هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فالعقل الذي يديم النظر في الكتاب المعجزة (القرآن الكريم) ويتأمل من خلال آياته وسوره الكون الفسيح، هذا العقل يستطيع أن يجادل وأن يحاور وهو على ثقة بأنه المنتصر، وشعاره: (قل هاتوا برهانكم إن كُنتُم صادقين)، ولا يتحدى الخصم خصمه ما لم يكن واثقًا من صحة دعواه.
ونستطيع من دون جهد منا الرد على صغار الملحدين بأن نقدم لهم قصصا من عاد إلى حظيرة الإيمان لأنهم يمثلون أدلة حية على ضلال من ألحد، وجهله وتخلفه.
وهؤلاء العلماء قد أشار إليهم القرآن الكريم في قوله تعالى: {ألم تَر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود(27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور(28)} فاطر، وهذا يعني أنه لا يبلغ درجة العلماء إلا من يستشعر الخشية من الله تعالى، أي أنه عرف الله تعالى حق المعرفة من خلال آياته في الكون، وقدره حق قدره، وهو بالتبعية يصير مسلمًا موحدًا، ومن لم يبلغ هذه المرتبة فلا يستحق لقب العلماء، وأنه لا يزال يراوح في مكانه ولم يخالط الإيمان قلبه. والآيات السابقة من سورة فاطر لم تتحدث عن العقيدة والعبادة إنما تحدثت عن علوم الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وعن السماوات والأرض، وأنها تؤدي لا محالة إلى معرفة الخالق حق المعرفة، والإيمان به سبحانه، وها هم نخبة من العلماء اجتمعوا على غاية واحدة، وهي التعرف على الخالق من خلال تأمل مخلوقاته، وانتهوا إلى تأليف كتاب بعنوان: «الله يتجلى في عصر العلم» قام بترجمة هذا الكتاب إلى العربية الدكتور الدمرداش عبدالمجيد سرحان، وراجعه عالم متمكن هو: الدكتور محمد جمال الدين الفندي، وتدور أبحاث الكتاب حول العلم والإيمان (ويكيبيديا).
ونرجو من صغار الملحدين الذين أسرفوا على أنفسهم وظنوا أنهم على شيء من العلم -وهم ليسوا كذلك- أن يرجعوا إلى مثل هذه الكتب التي قام على وضعها علماء ثقات، أفنوا أعمارهم في البحث العلمي النزيه، وقدموا لنا زبدة تجاربهم التي قادت كثيرًا منهم إلى الإيمان بوجود خالق حكيم عليم أمره كله بين (الكاف والنون)، وأنه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فتبارك الله أحسن الخالقين سبحانه.

أضف تعليق