المنهاج العمري.. في محاسبة الولاة!

تاريخ النشر :٦ يوليو ٢٠١٤

تفرّد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في كثير من أمور حياته، وبالأخص التي كانت لها علاقة وثيقة بمصالح الأمة؛ فقد كان -رضي الله عنه- شديد الحساسية من كل ما يتصل بالأمة وبمصالحها من قريب أو بعيد، ومن هذه الأمور اختيار الولاة الذين يوكل إليهم تصريف شئون الناس حتى إنه كان يقول:
«إذا ظلم والٍ أحداً من الرعية، وبلغني ذلك ولم أنصفه، فكأني أنا الذي ظلمته» ولهذا كان يبادر إذا بلغه أي انحراف أو تعد من أحد ولاته إلى محاسبته أشد الحساب حتى يرتدع غيره، فلا ييأس صاحب الحق من عدله، ولا يطمع العصاة من ولاته في إمهاله وحلمه، كما أنه -رضي الله عنه- كان يشترط شروطاً صعبة فيمن يختاره للولاية، ومن أهم هذه الشروط وأحراها بالقبول عنده ألا يكون الرجل حريصاً على الولاية، ولقد كانت له قصة مع أحد الرجال الذين اختارهم ليتولوا عملاً له، ولقد توافرت فيه كل الشروط التي تؤهله للولاية من العلم والأمانة والتقوى، إلا أن شرطاً واحداً لم يعرفه عنه عمر لأن ذلك الشرط سر بين العبد وربه سبحانه، وهذا الشرط هو حرصه الشديد على طلب الإمارة، فجاء الرجل إلى أمير المؤمنين عمر وقال له: يا أمير المؤمنين أمّرني، قال له: كنا نريد أن نؤمرك ولكن بعد أن طلبتها، فنحن لا نؤمر من يطلبها.
ولما كلف الصحابي الجليل أبا هريرة ولاية البحرين قال لرجاله: أحصوا ما عنده من أموال، فقال أبوهريرة:
أتستعملوننا ولا تأتمنوننا؟!. قال: هذا شرطي عليكم، نحصي أموالكم عندما نوليكم، ونحصيها عند إعفائكم من الولاية ليتبين للناس صدقكم وأمانتكم.
كان الولاة يخشونه أشد الخشية؛ لأن حسابه للمخطئ فيهم عسير، ومراقبته لهم شديدة، ولا تغيب عنه شاردة ولا واردة من أحوالهم مع أهليهم ومع رعيتهم، رغم المسافات البعيدة التي تفصلهم عنه، وتفصله عنهم، إلا أنهم يعملون ألف حساب لمخالفة أي أمر من أوامره، لأنهم يعلمون أن خبر ذلك سوف يصله، لا نبالغ إذا قلنا في اللحظة التي يحصل فيها هذا الأمر أو بعده بزمن يسير، لا تسأل كيف، فإن له وسائله الخاصة التي يستطيع بواسطتها أن يعرف بها أخبار ولاته وتحركاتهم، المهم أن ما يجري في الولايات الإسلامية يصل إلى أمير المؤمنين، ويبادر إلى معالجته، وإصدار حكمه العادل فيه.
يقول الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه «عبقرية عمر» (إن الشاب المصري الذي سافر إلى المدينة ليشكو ابن واليه على مصر لم يتجشم عناء السفر بوسائل ذلك العصر المرهقة والبطيئة في المواصلات لو لم يكن متأكداً أن شكايته لن تهمل، وأن أمير المؤمنين -رضي الله عنه- سوف يهتم بها، ويصدر حكمه العادل بشأنها).
لقد حكم نفسه، فانحكم له الناس، وهو -رضي الله عنه- لم يكتف بحكم نفسه، بل حكم ولاته بصرامة، وذلك بعد أن بذل أقصى جهده، وغاية وسعه في حسن اختياره لهم، ومراقبته الصارمة حتى لا يزيغوا وتستهويهم السلطة، فيتطاولوا على الناس، ويستهينوا بحقوقهم، أو يمكنوا أبناءهم وأقرباءهم من رقاب الرعية.
وكان الولاة بدورهم يعلمون شدة صرامة عمر في محاسبتهم، وإنزال أقصى العقوبة بمن يزيغ منهم عن الحق، لهذا كان الناس في عهده يعيشون في أمن وأمان، لا يخافون جور الولاة ولا ظلمهم.
ولقد سطرت كتب التاريخ صفحات مجيدة عن عدل عمر وإنصافه، وحرصه على رعيته، وأخذه بالشدة ولاته بالأمصار، وها هو أحد مواطنيه يسعى ليرفع مظلمته إليه عن تعدي ابن واليه على مصر عندما فاز عليه في السباق، فأخذ يضربه ويقول له: أتسبق ابن الأكرمين؟!.
فما كان من المواطن المصري إلا أن سعى إلى دار الخلافة في المدينة ووضع مظلمته بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولما تبين لعمر حقيقة الأمر أرسل في طلب الجاني (ابن عمرو بن العاص) وأبيه، وكانت الرسالة التي أرسلها عمر إلى عامله على مصر شديدة اللهجة قائلاً له: إلى العاص ابن العاص احضر ومعك ابنك.
وقضى للمصري على خصمه ابن الوالي، فأعطاه السوط وقال له: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال له: انزل بالسوط على صلعة أبيه؛ إذ لولا سلطانه ما ضربك ابنه، إلا أن المصري أبى، وقال: لقد ضربت من ضربني.
ولقد جاءه رجل من العراق يشكو عامله أبا موسى الأشعري، فأرسل معه كتاباً شديد اللهجة، وقال له: عزمت عليك أن تمكنه من نفسك كما فعلت ذلك فيه على مشهد من الناس، أو في معزل عنهم، فاستجاب الصحابي الجليل لحكم أمير المؤمنين إلا أن الرجل عفا عنه.
وللمرة الثانية يأتيه من ولاية مصر من يشكو إليه ظلم واليه على مصر، وكان الوالي في ذلك الوقت هو عمرو بن العاص، وأما صاحب الشكوى، فهي امرأة أخذ الوالي بيتها وضمه إلى المسجد من أجل توسعته بعد أن ضاق المسجد بالمصلين، ولقد حاول الوالي مع المرأة بالحسنى وعرض عليها مالاً كثيراً، ولكنها أبت، ولما قصت على أمير المؤمنين قصتها حكم عمر برد البيت إلى المرأة وأن يبذل الوالي جهده في إرضائها، ففعل الوالي ذلك، ولم يكتف عمر بذلك، بل هدد واليه، وتوعده بالعذاب الشديد لو عاد لمثلها.
هذه شذرات من رعاية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للرعية، وشدة محاسبته لولاته، وإنزال العقوبة الشديدة على المستحقين لها، وذلك حتى لا يتطاولوا هم أو أحد من أقربائهم على الناس، وحتى لا يستهينوا بحقوق الرعية، وأن يسيروا فيهم كسيرته هو فيهم.
أين هذا مما يحصل اليوم من بعض حكام نسوا الله تعالى، ففرطوا بالمسؤولية، ولم يرعوا مصالح الناس، وخاضوا في أموالهم وأعراضهم، بل دمائهم؟
أين أنت يا أمير المؤمنين، وأين أيامك الخالدات؟!.

أضف تعليق